anmar
عدد المساهمات : 19 تاريخ التسجيل : 23/03/2011
| موضوع: كفى بالموت واعظا الأربعاء مارس 23, 2011 5:46 pm | |
| الحمد لله الذي كتب على عباده الموت والفناء، وتفرد سبحانه بالحياة والبقاء، والصلاة والسلام على من ختمت به الرسل والأنبياء وعلى آله وأتباعه إلى يوم اللقاء.
فإن الموت لا ريب فيه، ويقين لا شك فيه {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق: 19]، فمن يجادل في الموت وسكرته؟!، ومن يخاصم في القبر وضمته؟! ومن يقدر على تأخير موته وتأجيل ساعته؟!... {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].
فلماذا تتكبر أيها الإنسان وسوف تأكلك الديدان؟!
ولماذا تطغى وفي التراب ستلقى؟!
ولماذا التسويف والغفلة وأنت تعلم أن الموت يأتي بغتة؟!
{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27]، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88].
حقيقة الموت:
أخي المسلم:
يخطئ من يظن أن الموت فناء محض وعدم تام، ليس بعده حياة ولا حساب ولا حشر ولا نشر ولا جنة ولا نار. إذ لو كان الأمر كذلك لا نتفت الحكمة من الخلق والوجود، ولاستوى الناس جميعاً بعد الموت واستراحوا، فيكون المؤمن والكافر سواء، والقاتل والمقتول سواء، والظالم والمظلوم سواء، والطائع والعاصي سواء، والزاني والمصلي سواء، والفاجر والتقي سواء، وهذا مذهب الملاحدة الذين هم شر من البهائم، فلا يقول ذلك إلا من خلع رداء الحياء، ونادى على نفسه بالسفه والجنون. قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7]، وقال سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79-78].
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غابة كل حي ولكنا إذا متنا بعـــثنا ونسأل بعده عن كل شيء
فالموت هو انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقتها له، والانتقال من دار إلى دار، وبه تطوى صحف الأعمال،و تنقطع التوبة والإمهال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» [رواه الترمذي وحسنه الألباني].
الموت أعظم المصائب:
والموت من أعظم المصائب، وقد سماه الله تعالى مصيبة في قوله سبحانه: {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106]، فإذا كان العبد طائعاً ونزل به الموت ندم أن لا يكون ازداد وإذا كان العبد مسيئاً تدم على التفريط وتمنى العودة إلى دار الدنيا، ليتوب إلى الله تعالى، ويبدأ العمل الصالح من جديد. ولكن هيهات هيهات!! قال تعالى: {وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت: 24]، وقال سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100-99].
مضى العمر وفات *** يا أسير الغفلات حصّل الزاد وبادر *** مسرعاً قبل الفوات
فإلى كم ذا التعامي *** عن أمور واضحات وإلى كم أنت غارق *** في بحار الظلمات
لم يكن قلبك أصلا *** بالزواجر والعظات بينما الإنسان يسأل *** عن أخيه قيل مات
وتراهم حملوه *** سرعة للفلوات أهله يبكوا عليه *** حسرة بالعبرات
أين من قد كان يفخر *** بالجياد الصافنات وله مال جزيل *** كالجبال الراسيات
سار عنها رغم أنف *** للقبور الموحشات كم بها من طول مكث *** من عظام ناخرات
فاغنم العمر وبادر *** بالتقى قبل الممات واطلب الغفران ممن *** ترتجي منه الهبات
عبرة الموت:
يروى أن أعرابيًا كان يسير على جمل له، فخر الجمل ميتًا، فنزل الأعرابي عنه، وجعل يطوف به ويتفكر فيه، ويقول: ما لك لا تقوم؟
مالك لا تنبعث؟
هذه أعضاؤك كاملة!!
وجوارحك سالمة!!
ما شأنك؟
ما الذي كان يحملك؟
ما الذي صرعك؟
ما الذي عن الحركة منعك؟
ثم تركه وانصرف متعجبًا من أمره، متفكرًا في شأنه!!
قال ابن السماك: "بينما صياد في الدهر الأول يصطاد السمك، إذ رمى بشبكته في البحر، فخرج فيها جمجمة إنسان، فجعل الصياد ينظر إليها ويبكي ويقول:
عزيز فلم تترك لعزك!!
غني فلم تترك لغناك!!
فقير فلم تترك لفقرك!!
جواد فلم تترك لجودك!!
شديد لم تترك لشدتك!!
عالم فلم تترك لعلمك!!".
يردد هذا الكلام ويبكي.
اذكروا هاذم اللذات:
أخي الكريم:
حث النبي صلى الله عليه وسلم على ذكر الموت والإكثار منه، فقال عليه الصلاة والسلام:«أكثروا من ذكر هادم اللذات» [صححه الألباني].
قال الإمام القرطبي: "قال علماؤنا: قوله عليه السلام: «أكثروا من ذكر هادم اللذات» [صححه الألباني] كلام مختصر وجيز، وقد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة، فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة، ومنعه من تمنيها في المستقبل، وزهده فيما كان منها يؤمل، ولكن النفوس الراكدة، والقلوب الغافلة، تحتاج إلى تطويل الوعاظ، وتزويق الألفاظ، وإلا ففي قوله عليه الصلاة والسلام: «أكثروا من ذكر هادم اللذات» [صححه الألباني]، مع قوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، ما يكفي السامع له، ويشغل الناظر فيه".
ولقد أحسن من قال: "اذكر الموت هادم اللذات وتجهز لمصرع سوف يأتي".
وقال غيره: "اذكر الموت تجد راحة في ادكار الموت تقصير الأمل".
أولئك الأكياس
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة، فقام رجل من الأنصار فقال: يا نبي الله! من أكيس الناس وأحزم الناس؟ قال: «أكثرهم ذكرًا للموت، وأكثرهم استعدادًا للموت، أولئك الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة» [الطبراني وحسنه المنذري].
فوائد ذكر الموت
أخي الحبيب: وفي الإكثار من ذكر الموت فوائد منها:
1- أنه يحث على الاستعداد للموت قبل نزوله.
2- أن ذكر الموت يقصر الأمل في طول البقاء، وطول الأمل من أعظم أسباب الغفلة.
3- أنه يزهد في الدنيا ويرضي بالقليل منها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلس وهم يضحكون فقال: «أكثروا ذكر هاذم اللذات»، أحسبه قال: «فإنه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه، ولا في سعة إلا ضيقه عليه» [البزار وحسنه المنذري].
4- أنه يرغّب في الآخرة ويدعو إلى الطاعة.
5- أنه يهوّن على العبد مصائب الدنيا.
6- أنه يمنع من الأشر والبطر والتوسع في لذات الدنيا.
7- أنه يحث على التوبة واستدراك ما فات.
8- أنه يرقق القلوب ويدمع الأعين، ويجلب باعث الدين، ويطرد باعث الهوى.
9- أنه يدعو إلى التواضع وترك الكبر والظلم.
10- أنه يدعو إلى سل السخائم ومسامحة الإخوان وقبول أعذارهم.
أنفاس معدودة
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعًا، وخط خطًا في الوسط خارجًا منه، وخط خططًا صغرًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، فقال:«هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به -أوقد أحاط به- وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا» [البخاري].
وقال القرطبي: "وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم، وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعدًا لذلك".
وكان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: "الرحيل الرحيل"، فلما توفي فقد صوته أمير المدينة، فسأل عنه فقيل: إنه قد مات فقال:
ما زال يلهج بالرحيل وذكره *** حتى أناخ ببابه الجمال فأصابه مستيقظًا متشمرًا *** ذا أهبة لم تلهه الآمال
وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: "ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى ربك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ مَن الموت طالبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، كيف يكون حاله؟" ثم يبكي رحمه الله.
بينا الفتى مرح الخطـا فرح بما *** يسعى له إذ قيل قد مرض الفتى إذ قيـل بــات بليلـة مــا نـامهـا *** إذ قيل أصبــح مثخـنًا مــا يــرتجى إذ قيل أصبــح شاخصًا وموجهًا *** ومعلـلا إذ قيــل أصبــح قـد مضـى
وقال التميمي: "شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى".
وكان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يجمع العلماء فيتذكرون الموت والقيامة والآخرة، فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازةَ!!
وقال الدقاق: "من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة".
وقال الحسن: "إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا عشيًا لا موت فيه".
أذكـر المــوت ولا أرهبـه *** إن قلبي لغليـظ كـالحجـر أطلب الدنيا كأني خالد *** وورائي الموت يقفو بالأثر
وكفى بالموت فاعلم واعظًا *** لمن المــوت عليـه قـدر والمنايـــا حولـه ترصــده *** ليس ينجي المرء منهن المفر
موعظة
فتفكر يا مغرور في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله. كفى بالموت مقرحًا للقلوب، ومبكيًا للعيون، ومفرقًا للجماعات، وهادمًا للذات، وقاطعًا للأمنيات.
فيا جامع المال! والمجتهد في البنيان! ليس لك والله من مالك إلا الأكفان، بل هي والله للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمآب، فأين الذي جمعته من المال؟ هل أنقذك من الأهوال؟ كلا.. بل تركته إلى من لا يحمدك، وقدمت بأوزارك على من لا يعذرك.
ولقد أحسن من قال في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77 ]، هو الكفن، فهو وعظ متصل بما تقدم من قوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص: 77]، أي اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة، فإن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة، لا في الطين والماء، والتجبر والبغي، فكأنهم قالوا: لا تنس أن تترك جميع مالك إلا نصيبك الذي هو الكفن.
ونحو هذا قال الشاعر:
هي القناعــة لا تبـغ بهــا بدلا *** فيهــا النعيـم وفيها راحــة البــدن انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل *** راح منها بغير القطن والكفن؟!
فيا أخي الحبيب:
أين استعدادك للموت وسكرته؟
أين استعدادك للقبر وضمته؟
أين استعدادك للمنكر والنكير؟
أين استعدادك للقاء العلي القدير؟
وقال سعيد بن جبير: "الغرة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية، ويتمنى على الله المغفرة".
تــزود مـن التقـوى فإنك لا تــدري *** إذا جــن ليـل هـل تعيش إلى الفجــر فكم من صحيح مات من غير علة *** وكم من سقيم عاش حينا من الدهر وكم من صبي يرتجـى طول عمره *** وقـد نسجـت أكفـانــه وهــو لا يـــدري
الأسباب الباعثة على ذكر الموت
1- زيارة القبور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» [أحمد وأبو داود وصححه الألباني].
2- زيارة مغاسل الأموات ورؤية الموتى حين يغسلون.
3- مشاهدة المحتضرين وهم يعانون سكرات الموت وتلقينهم الشهادة.
4- تشييع الجنائز والصلاة عليها وحضور دفنها.
5- تلاوة القرآن، ولا سيما الآيات التي تذكر بالموت وسكراته كقوله تعالى: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19].
6- الشيب والمرض، فإنهما من رسل ملك الموت إلى العباد.
7- الظواهر الكونية التي يحدثها الله تعالى تذكيرًا لعباده بالموت والقدوم عليه سبحانه كالزلازل والبراكين والفيضانات والانهيارات الأرضية والعواصف المدمرة.
8- مطالعة أخبار الماضين من الأمم والجماعات التي أفناهم الموت وأبادهم البلى.
سكرات الموت وشدته
أخي المسلم:
إن للموت ألمًا لا يعلمه إلا الذي يعالجه ويذوقه، فالميت ينقطع صوته، وتضعف قوته عن الصياح لشدة الألم والكرب على القلب، فإن الموت قد هد كل جزء من أجزاء البدن، وأضعف كل جوارحه، فلم يترك له قوة للاستغاثة أما العقل فقد غشيته وسوسة، وأما اللسان فقد أبكمه، وأما الأطراف فقد أضعفها، ويود لو قدر على الاستراحة بالأنين والصياح، ولكنه لا يقدر على ذلك، فإن بقيت له قوة سمع له عند نزع الروح وجذبها خوار وغرغرة من حلقه وصدره، وقد تغير لونه، وأزبد، ولكل عضو من أعضائه سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى تبلغ روحه إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها، وتحيط به الحسرة والندامة إن كان من الخاسرين، أو الفرح والسرور إن كان من المتقين.
قالت عائشة رضي الله عنها: "كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: «لا إله إلا الله إن للموت سكرات» وفي لفظ أنه كان يقول عند موته: [color=#008000]«اللهم أعني على سكرات الموت» أحمد والترمذي وحسنه الحاكم]، والسكرات هي الشدائد والكربات.
وتشديد الله تعالى على أنبيائه عند الموت رفعة في أحوالهم، وكمال لدرجاتهم، ولا يفهم من هذا أن الله تعالى شدد عليهم أكثر مما شدد على العصاة والمخلطين، فإن تشديده على هؤلاء عقوبة لهم ومؤاخذة على إجرامهم، فلا نسبة بينه وبين هذا.
فيا أيها المغرور:
فما لك ليس يعمل فيك وعظ *** ولا زجــر كأنـك مـن جمــاد ستنـدم إن رحـلـت بغيــر زاد *** وتشقى إذ يناديك المنادي
فلا تأمن لذي الدنيا صلاحا *** فإن صلاحها عين الفساد ولا تـفــرح بمــال تقـتنيـــه *** فإنـك فيه معكـوس المـراد
وتب ممـا جنيت وأنت حس *** وكــن متنبهـا قبل الرقـاد أترضى أن تكـون رفيق قـوم *** لهـم زاد وأنت بغيـر زاد؟!
يا كثير السيئات غدًا ترى عملك، ويا هاتك الحرمات إلى متى تديم زللك؟ أما تعلم أن الموت يسعى في تبديد شملك؟ أما تخاف أن تؤخذ على قبيح فعلك؟ وا عجبا لك من راحل تركت الزاد في غير رحلك!! أين فطنتك ويقظتك وتدبير عقلك؟ أما بارزت بالقبيح فأين الحزن؟ أما علمت أن الحق يعلم السر والعلن؟ ستعرف خبرك يوم ترحل عن الوطن، وستنتبه من رقادك ويزول هذا الوسن. قال يزيد بن تميم: "من لم يردعه الموت والقرآن، ثم تناطحت عنده الجبال لم يرتدع!!".
رسل ملك الموت
ورد في بعض الأخبار أن نبيًا من الأنبياء عليهم السلام قال لملك الموت: "أما لك رسول تقدمه بين يديك، ليكون الناس على حذر منك؟" قال: "نعم، لي والله رسل كثيرة: من الإعلال، والأمراض، والشيب، والهموم، وتغير السمع والبصر".
وفي صحيح البخاري عن أبى هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعذر الله إلى امرئ بلغه ستين سنة».
وأكبر الأعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم، ليتم حجته عليهم كما قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وقال سبحانه: {وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]، قيل: هو القرآن وقيل: الرسل وقال ابن عباس: هو الشيب.
كيف ماتوا؟
أخي الحبيب:
اعلم أن حسن الخاتمة لا تكون إلا لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، أما سوء الخاتمة فإنها تكون لمن كان له فساد في العقل، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب عليه ذلك حتى ينزل به الموت قبل التوبة، أو يكون مستقيمًا ثم يتغير عن حاله، ويخرج عن سننه، ويقبل على معصية ربه، فيكون ذلك سببًا لسوء خاتمته، والعياذ بالله.
صور من سوء الخاتمة
قيل لرجل عند الموت: قل لا إله إلا الله، وكان سمسارًا، فأخذ يقول: ثلاثة ونصف.. أربعة ونصف.. غلبت عليه السمسرة.
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا وكذا، والبستان الفلاني أعملوا فيه كذا، حتى مات.
وقيل لأحدهم وهو في سياق الموت: قل لا إله إلا الله، فجعل يغني، لأنه كان مفتونًا بالغناء، والعياذ بالله.
وقيل لشارب خمر عند الموت: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: اشرب واسقني نسأل الله العافية.
صور من حسن الخاتمة
دخل صفوان بن سليم على محمد بن المنكدر وهو في الموت فقال له: "يا أبا عبدالله! كأني أراك قد شق عليك الموت"، فما زال يهون عليه ويتجلى عن وجه محمد، حتى لكأن وجهه المصابيح، ثم قال له: "لو ترى ما أنا فيه لقرت عينك"، ثم مات.
وقال محمد بن ثابت البناني: "ذهبت ألقن أبي وهو في الموت فقلت: يا أبت! قل لا إله إلا الله". فقال: "يا بني، خل عني، فإني في وردي السادس أو السابع!".
ولما احتضر عبدالرحمن بن الأسود بكى، فقيل له: "مم البكاء؟" فقال: "أسفًا على الصلاة والصوم"، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات.
وسمع عامر بن عبدالله المؤذن وهو في مرض الموت فقال: "خذوا بيدي إلى المسجد"، فدخل مع الإمام في صلاة المغرب، فركع ركعة ثم مات رحمة الله.
رحلة الموت
رب مذكور لقوم *** غاب عنهم فنسوه وإذا أفنى سنيه *** المـرء أفنتـه سنوه
وكـأن بالمـرء قد *** يبكي عليه أقربـوه وكأن القوم قد ماتوا *** فقـالوا أدركـوه
سائلـــوه كلمـــوه *** حـركـــوه لقنـــوه فإذا استيأس منه الـ *** قوم قالوا أحرقوه
حرفــوه وجهوه *** مــددوه غمضــوه عجلوه لرحيل *** عجلوا لا تحبسوه
ارفعـــوه غسلــوه *** كفنـــوه حنطــــوه فإذا ما لف في الـ *** أكفان قالوا فاحملوه
أخرجوه فوق أعواد *** المنايـــا شيعـــوه فإذا صلـــوا عليـــه *** قيـل هاتوا واقبروه
فـإذا ما استودعـوه *** الأرض رهنًا تركوه خلفوه تحت رمس *** أوقــــروه أثقلــــوه
أبعدوه اسحقوه *** أوحـدود أفـــردوه ودعـــوه فارقـوه *** أسلمـوه خلفوه
وانثنوا عنه وخلوه *** كأن لـم يعرفـوه وكأن القــوم فيما *** كان فيه لم يلوه
| |
|